بعد أن منَّ الله على الرسول محمد – صلى الله عليه وسلم – بتأسيس دولة
الإسلام ودخول كثير من الناس الإسلام وانتشار الدعوة في أرجاء الجزيرة
العربية حج الرسول محمد – صلى الله عليه وسلم – حجة الوداع وبين فيها
كثيراً من الأحكام الشرعية .
و في الخامس من شهر ذي القعدة من السنة العاشرة للهجرة أعلن الرسول سيدنا
محمد – صلى الله عليه وسلم – عن عزمه زيارة بيت الله الحرام حاجاً ، فخرج
معه حوالي مئة ألف من المسلمين من الرجال والنساء ، وقد استعمل على المدينة
أبا دجانة الساعدي الأنصاري ، وأحرم للحج ثم لبّى قائلاً : ” لبيك اللهم
لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمدَ والنعمةَ لك ، والملك ، لاشريك لك
” ( صحيح بخاري ) .
وبقي ملبياً حتى دخل مكة المكرمة ، وطاف بعدها بالبيت سبعة أشواط واستلم
الحجر الأسود وصلّى ركعتين عند مقام إبراهيم وشرب من ماء زمزم ، ثم سعى بين
الصفا والمروة ، وفي اليوم الثامن من ذي الحجة توجه إلى منى فبات فيها ،
وفي اليوم التاسع توجه إلى عرفة فصلى فيها الظهر والعصر جمع تقديم في وقت
الظهر ، ثم خطب خطبته الشريفة التي سميت فيما بعد خُطبة الوداع .
قال ابن إسحاق رحمه الله : ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على حجه
فأرى الناس مناسكهم وأعلمهم سنن حجهم وخطب الناس خطبته التي بين فيها ما
بين فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ( أيها الناس اسمعوا قولي ، فإني لا
أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا ، أيها الناس إن دماءكم
وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا ، وكحرمة شهركم
هذا ، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بلغت ، فمن كان عنده أمانة
فليؤدها إلى من ائتمنه عليها ، وإن كل ربا موضوع ولكن لكم رءوس أموالكم لا
تظلمون ولا تظلمون . قضى الله أنه لا ربا ، وإن ربا عباس بن عبد المطلب
موضوع كله وأن كل دم كان في الجاهلية موضوع وإن أول دمائكم أضع دم ابن
ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، وكان مسترضعا في بني ليث فقتلته هذيل فهو
أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية . أما بعد أيها الناس فإن الشيطان قد يئس
من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا ، ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضي به بما
تحقرون من أعمالكم فاحذروه على دينكم أيها الناس إن النسيء زيادة في الكفر
يضل به الذين كفروا ، يحلونه عاما ويحرمونه عاما ، ليواطئوا عدة ما حرم
الله فيحلوا ما حرم الله ويحرموا ما أحل الله . إن الزمان قد استدار كهيئته
يوم خلق الله السموات والأرض وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا ،
منها أربعة حرم ثلاثة متوالية ورجب مضر ، الذي بين جمادى وشعبان . أما بعد
أيها الناس ، فإن لكم على نسائكم حقا ، ولهن عليكم حقا ، لكم عليهن أن لا
يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فإن
الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح فإن انتهين
فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف واستوصوا بالنساء خيرا ، فإنهن عندكم عوان لا
يملكن لأنفسهن شيئا ، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن
بكلمات الله فاعقلوا أيها الناس قولي ، فإني قد بلغت ، وقد تركت فيكم ما إن
اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا ، أمرا بينا ، كتاب الله وسنة نبيه . أيها
الناس اسمعوا قولي واعقلوه تعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم وأن المسلمين إخوة
فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه فلا تظلمن أنفسكم اللهم
هل بلغت ؟ فذكر لي أن الناس قالوا : اللهم نعم فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم ” اللهم اشهد اللهم اشهد اللهم اشهد ثلاث مرات ) .
قال ابن إسحاق : وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه عباد
قال كان الرجل الذي يصرخ في الناس بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
بعرفة ربيعة بن أمية بن خلف . قال يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم : (
قل يا أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هلا تدرون أي شهر
هذا ؟ ” فيقول لهم فيقولون الشهر الحرام فيقول قل لهم ” إن الله قد حرم
عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة شهركم هذا ” ; ثم يقول قل ”
يا أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هل تدرون أي بلد هذا ؟
” قال فيصرخ به قال فيقولون البلد الحرام ، قال فيقول قل لهم ” إن الله قد
حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة بلدكم هذا ” . قال ثم
يقول قل ” يا أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هل تدرون أي
يوم هذا ؟ قال فيقوله لهم . فيقولون يوم الحج الأكبر قال فيقول قل لهم إن
الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا )