ليتني أعود صفحة بيضاااء..
هاهي الأيام مقفرة في وجه شفافة الوجه و مظلمة..و الدنيا موحشة برهبتها و
مخيفة..لا تسمع فيها حسا و لا حركة..تطلب فيها الراحة فلا تجدها..و تهتف
بالغمض فلا تلقى إليه السبيل..تنام و عقلها يقظان..و قلبها تخرق من تقلب
الأيام..من تصاريف و شؤون الأحلام..تلك الأحلام التي أبدعت ما أبدعت..دون
أن يكون منها شيء في الواقع...لا تزال قصتها تلقي المسألة بعد المسألة..و
ترفض الحل الذي لا تحل المسألة إلا به..
تقلبت الأيام..و تحولت من حال إلى حال...تغيرت لتبعث في نفسها الطمأنينة
بعد الذي حدث..جعلتها تستيقظ من السبات لتفصل بين الزمن و الزمان..و ساعدها
تغيرها في تحويل كل الحياة إلى فكرة..أجل فكرة صغيرة..
"الحب الحقيقي لا يقوم إلا بعفة الحبيب عن محبوبته..و امتناعه عنها ..كما يحب أن تمتنع عن غيره..هذا هو الحب..و هذي هي الحياة..."
ربما كل ما يكتب عن حبيبين لا يفهم منه بعض ما يفهم من رؤية وجه أحدهما
ينظر إلى وجه الآخر..أما الكتابة عن حبها..فسيفهم من السطور..فهو ليس بحب
يتطلب نظرة..لأن النظرات أصبحت اليوم لها حسرات..فقد انتهت كل الآمال التي
بنتها..و صارت خيطا غابرا من الآثار التي بقيت تتحدث عنها أفواه اللئام
فقط..انقضى ما كان..و أصبحت و إياه متناكرين غير متعارفين..لا يذكر الوااحد
منهما صاحبه..إلا كما يذكر الصبي حلما من احلام صباه..صارا إذا التقيا في
طريق واحد..مضى كل منهما في سبيله دون ان يلوى على صاحبه..أما إذا صادفت
عينها عينه..لا ترى فيهما غير ذاك الأناني الذي عشقها فبذلها في حضن
الناس..فأذاع ما بينهما و لم يصن شرف حبيبته التي تمناها زوجة له...
أصبحت كلما تتذكر ماضيها..تبكي حيث لا يجدي البكاء..تبكي على تلك الدقائق
الثمينة التي فكرت بمتكبر مثله..وعلى لياليها العزيزة..التي جعلت منها
ليلات سهرت من أجل أن ترضيه..تبكي على ذاك القلب الذي أودى بها إلى نهر
الحماقة وواد الغفلة و الضياع..
ابتعدت عن كل ما يذكرها به..و صارت لا تكترث به..لا يهمها أمره..أما هو فقد
بقي يستثير غيرتها بصحبة غيرها..و لم يعلم أن الغيرة عندها قد ماتت و صارت
رمادا...والحب الدي بقلبها صار أنينا و عذابا..بل أقسمت بعد هذا أن قلبه
ليس أفضل من قلبها..و مشاعره ليست أغلى من مشاعرها..و قيمته ليست أثمن من
قيمتها..أقسمت أنها ستحرق قلبه مثلما حرق قلبها..و ستنثر ذاك الرماد في
سماء كبريائها..و ستمزق ذكرياتها معه من قاموس حياتها..و ترمي تلك الأشلاء
تحت أقدامها..فلا شيء يعلو على كرامتها..
لم يبق لها غير هذا الأنين و الصوت الصارخ..و لم يبق غير بقع الحبر السوداء..على صفحتها البيضاء...
تناجي و تستغيث..تنادي علها تجد المغيث..لسان حالها لا زال يردد:
"ليتني أعود صفحة بيضاااء.."
يارب رحمتك.