لقد بلغ تأثير تعاليم الكتاب والسنة بشأن الجوار وحقوق الجار في وعي
الإنسان المسلم ، أن غدت حرمة الجار من ثوابت الثقافة الاجتماعية عند
الإنسان المسلم . وهذا مما يجب أن تعنى به برامج التربية والتعليم في
البلاد الإسلامية لترسيخ هذا الخلق الكريم في الاجتماع الإسلامي المعاصر
بما هو خلق إنساني إيماني .
ويبدو من بعض نصوص السنة أن هذا الخلق غدا من ثوابت الثقافة في وعي الإنسان المسلم منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة .
فقد روى الكليني بإسناده عن حنان بن سدير ، عن أبيه ، عن أبي جعفر الإمام
محمد باقر ، قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكا إليه أذّي من
جاره ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : اصبر . ثم أتاه ثانية،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اصبر . ثم عاد إليه فشكاه ثالثة ، فقال
النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي شكا : إذا كان عند رواح الناس إلى
الجمعة فأخرجْ متاعَك إلى الطريق حتى يراه من يروح إلى الجمعة ، فإذا سألوك
فأخبرهم . قال : ففعل ، فأتاه جاره المؤذي له قال له : ردَّ متاعك ، فلك
الله عليَّ ألاّ أعود .
وفي المحجة قيل : يا رسول الله كيف لي أن أعلم إذا أحسنت أو أسأت ؟ فقال
صلى الله عليه وسلم : ” إذا سمعت جيرانك يقولون قد أحسنت ، فقد أحسنت .
وإذا سمعتهم يقولون قد أسأت فقد أسأت “.
نضيف إلى ذلك أيضاً أن هذه النصوص تدل كما أشرنا على أن التجمع الحضري الذي
ينشئه الإسلام لا يختص بكون السكان مسلمين فقط ، بل يشمل المسلمين وغير
المسلمين ، وقد عبّر كثير من الفقهاء عن ذلك بصراحة .
قال أحمد بن حنبل : الجيران ثلاثة : جار له حق ، وهو الذمي الأجنبي له حق
الجوار ، وجار له حقان وهو المسلم الأجنبي ، له حق الجوار وحق الإسلام ،
وجار له ثلاثة حقوق وهو المسلم القريب له حق الجوار وحق الإسلام وحق
القرابة .
وقال الإمام الغزالي في ذكر حقوق الجار: ” ليس حق الجار كف الأذى فقط ، بل
احتمال الأذى . فإن الجار كف أذاه ، فليس في ذلك قضاء حق . ولا يكفي احتمال
الأذى ، بل لا بد من الرفق وإسداء الخير والمعروف ، ومنها أن يبدأ جاره
بالسلام ويعوده في المرض ، ويعزيه عند المصيبة ، ويهنئه عند الفرح ،
ويشاركه السرور بالنعمة ، ويتجاوز عن زلاته ، ويغض بصره عن محارمه ، يحفظ
عليه داره إن غاب ، ويتلطف بولده ويرشده إلى ما يجهله من أمر دينه ودنياه ”
هذا إلى جملة الحقوق العامة الثابتة لعامة الناس .
وبلغ ابن المقفع أن جاراً له يبيع داره في دَينٍ ركبه وكان يجلس في ظل داره
فقال : ما قمت إذن بحرمة ظلِّ داره أن باعها معدماَ ! فدفع إليه ثمن الدار
وقال : لا تبعها !
وجملة حق الجار أن يبدأه بالسلام ، ولا يطيل معه الكلام ، ولا يكثر عن حاله
السؤال ، ويعوده في المرض ، ويعزّيه في المصيبة ، ويقوم معه في العزاء ،
ويهنئه في الفرح ، ويصفح عن زلاته ، ولا يتطلع من السطح إلى عوراته ، ولا
يضايقه في وضع الجذع على جداره ، ولا يصب الماء من ميزابه ، ولا في مطرح
التراب في فنائه ، ولا يضيق طريقه إلى الدار ، ولا يتبعه النظر فيما يحمله
إلى داره ، ويستر ما ينكشف له من عوراته ، وينعشه من صرعته إذا نابته نائبة
، ولا يغفل عن ملاحظة داره عند غيبته ، ولا يتسمع عليه كلامه ، ويغض بصره
عن حرمته ، ولا يديم النظر إلى خادمته ، ويتلطف لولده في كلمته ، ويرشده
إلى ما يجهله من أمر دينه ودنياه .